السلطانة
رضية.... التي قتلها العشق.
هي السلطانة رضية الدين بنت السلطان
شمس الدين للمش ،
أول من حكم مدينة دلهي بالهند
( والتي كانت تسمى قديما دهلي) مستقلا عن المسلمين سنة
626هجرية.
والدها
شمس الدين للمش
:
كان شمس الدين أحد مماليك
السلطان قطب الدين
أيبك وقائدا لجيوشه ونائبا عنه. وقد كان شمس الدين شديد الاخلاص
والحماسة لسيده، حتى أن قطب الدين أيبك أعتقه
وزوجه بابنته مكافأة على اخلاصه. وبعد وفاة السلطان قطب الدين أستقل شمس الدين للمش بحكم
دلهي سنة 614 هجرية ، وكان مواليا للخليفة العباسي المستنصر بالله الذي قلده حكم
البلاد سنة 626هجرية. اشتهر السلطان شمس الدين للمش بالكفاءة
العسكرية، وكان ملكا عادلا، منصفا للضعفاء والمظلومين. فكان ينظر في المظالم ليلا
ونهارا. فقد أصدر مرسوما يقضي بأن يلبس المظلوم ثيابا ملونة ( كان الناس في مملكته
يرتدون الثياب البيضاء ) حتى يراه حينما ينزل لتفقد رعيته فينصفه ممن جار عليه.
وقدعلق على باب قصره أجراسا للذين يتعرضون للظلم ليلا ليقرعوها ويوقظوه من نومه كي
ينظر في أمرهم فورا ولا يضطروا ان ينتظروا للصبح. وكان هذا عملا عظيما. كان لدى
السلطان شمس الدين
أربعة من الأولاد، ثلاثة ذكور، وهم ركن الدين ، ومعز الدين ، وناصر الدين ، وابنة وحيدة
هي رضية
الدين.
الأميرة
الفارسة ...الفاتنة :
نشات رضية
الدين مدللة
في حجر أبيها الذي كان يحبها حبا شديدا دون إخوتها لما رآه فيها من رجاحة العقل
والحكمة والدهاء والصلاح. وعهد إلى الفقهاء بتعليمها حتى حفظت القرآن الكريم وألمت
بالفقة الإسلامي. وعهد إلى آخرين بتدريبها على فنون الحرب والقتال وحمل السلاح
والمبارزة وركوب الخيل، حتى غدت لا تقل شأنا عن إخوتها في العلم والسياسة. وكان
أبوها يسمح لها بالتدخل في بعض أمور السياسة لدهائها وحكمتها. ويقال أنه فكر أن
يجعلها ولية للعهد عوضا عن ابنه البكر ركن الدين الذي كان
منشغلا باللهو والملذات عن شؤون السلطنة ويشتهر بالقسوة والغلظة.
أما عن جمالها فحدث ولا حرج،
فقد حباها المولى عز وجل بجمال منظر يسحر الالباب وببهاء طلعة تخطف الأبصار. فرغب
بها الأمراء والوجهاء وخطبوا ودها وتقربوا إليها بالهدايا النفيسة. إلا أنها كانت
تأبى وتمتنع عنهم جميعا ولا ترى لها كفؤا من بينهم. لقد كان كبرياؤها واعتزازها
الفائق بنفسها ما يمنعها من قبول أحدهم زوجا
لها.
ثورتها على
الظلم :
عندما توفي
أبوها شمس الدين
للمش ، تولى بعده ابنه الأكبر ركن الدين فيروز شاة.
فظلم الرعية وتعدى على الحقوق وانفق أموال الدولة على ملذاته، ولم يتبع نهج أبيه في
العدل والاصلاح. فقام أخوه معز الدين بهرام بمؤامرة
لتنحيته عن الحكم. ولكن ركن الدين تنبه لها وقضى
عليها في مهدها وعمد إلى أخيه معز الدين.. فقتله.
هنا.. لم تسكت رضية الدين عن هذه الفعلة
الشنيعة، ووقفت في وجه أخيها وأخذت في وعظه ونصحه بالكف عن غيه ولكنه لم يصغ إليها،
بل إنه انتوى أن يتخلص منها ويلحقها بأخيها. ولكنها كانت أكثر دهاءا منه. فمكثت حتى
حان وقت صلاة الجمعة وصعدت إلى سطح القصر المجاور للجامع وعليها ثياب ملونه ليعرف
الناس أنها مظلومة، وصاحت فيهم: (واأبتاااه...واأبتاه.. أخي قتل أخاه.. ويريد قتلي
معه..) وأخذت تذكرهم بمآثر والدها واحسانه إلى شعبه، فثارت ثائرة جماهير المصلين
وهجموا على ركن الدين
وقبضوا عليه وساقوه إلى أخته لتنظر في أمره. فأجابتهم بعبارة واحدة : ( القاتل
يقتل ). فقتل ركن الدين قصاصا.
ثم نظروا فيمن يتولى زمام
الحكم بعده، فوجدوا ناصر الدين صبيا صغيرا لا
يقوى على تحمل هذه المسؤلية الكبيرة. فاتفقوا على مبايعة رضية الدين سلطانة
عليهم.
امرأة.. على
عرش السلطنة :
ارتفعت رضية
الدين على
عرش البلاد سنة 634هجرية. واستمرت في حكمها حتى عام 637هجرية.واعلنت ولاءها للخليفة
العباسي المستنصر بالله. وحملت إحدى عملاتها نقشا نصه: " عمدة النساء....ملكة
الزمان...السلطانة رضية الدين بنت شمس الدين للمش"
وقد بذلت ما في وسعها لتنهض
بالبلاد، وسارت على خطا أبيها في سياسته الحكيمة العادلة. ولكنها اصتدمت بمماليك
سلطنتها الذين انفوا أن تحكمهم امرأة. فأرادت أن تثبت لهم أنها لا تقل عنهم في شيء،
فتخلت عن لباس أنوثتها ( وكان هذا خطؤها الفادح ) ، فخلعت الحجاب، وارتدت ملابس
الرجال، وتسلحت في مجلسها بالقوس والسهام، ووضعت القلنسوة على رأسها. وقيل أنها
عمدت إلى شعرها الطويل فقصته تشبها بالرجال.
التمرد عليها :
لكن الشعب لم يرض عن هذا ، وهب الفقهاء والعلماء ضدها.
وبدأت حملات الغضب والتمرد، واجتمع الأمراء والوزراء على خلعها وتولية أخيها ناصر
الدين شؤون الحكم
والبلاد. وهذا فعلا ما حدث ، وسيقت رضية الدين إلى
السجن.
ولكنها لم تستسلم لما
آلت إليه من حال، فارسلت إلى حاكم مدينة ( أود) تستنجده لنصرتها واطمعته في ضم دلهي
إلى ملكه ، ووعدته أيضا بالزواج. فلم يتردد حاكم (أود)، وهب من فوره لنجدتها، وأعد
العدة وجيش الجيوش وسار بها. فعلم السلطان ناصر الدين بذلك وتأهب
لملاقاته. فالتقا الجيشان في معركة شرسة انتهت بهزيمة حاكم أود
ومقتله.
لما علمت رضية بما حدث، لم
تضعف عزيمتها بل ازدادت إصرارا على استرداد العرش. فقامت بنسج المؤامرات بين
الأمراء وحشدت الكثير منهم حولها حتى استطاعت أن تعتلي عرش المملكة مرة أخرى،
وانتقمت من كل من عاداها ووقف في وجهها وأعملت فيهم السيف، إلا أنها لم تمس أخاها
ناصر الدين بسوء
لمعرفتها بأنه لم يكن إلا ألعوبة في أيدي رجال الدولة. واستتب لها الأمن في ربوع
البلاد.
السلطانة
العاشقة :
ولكن...حدث ما لم يكن في الحسبان ، وارتكبت السلطانة ما هيج شعبها عليها
عندما بدا لهم أنها قد خانت تقاليدهم الأخلاقية وداست على أعرافهم عندما سمحت للحب
، تلك العاطفة التي كانت محرمة عليها ، أن يتدخل في شؤون
الحكم.
لم تكن السلطانة متزوجة
، وكان هذا من أسباب تهمتها. فقد كان لديها عبد حبشي ( ويقال فارسي) يدعى جمال الدين ياقوت. وكان
مسؤلا عن اصطبلات الخيول وكان يلقب بأمير الخيل. كانت السلطانة كثيرة الأنس بجمال
الدين وكان
يلازمها في كل نزهاتها ، وقيل أنها كانت متساهلة في تعاملها معه حيث أنه كان يرفعها
بنفسه على فرسها وينزلها بين ذراعيه. لقد كانت السلطانة شديدة التعلق به. وقد بلغ
من شغفها به أنها منحته لقبا ورتبة. فجعلته أمير الأمراء، مما أثار حفيظة أمراء
الدولة جميعا.
وبدأت الشائعات
تسري في القصور وبين عامة الشعب عن العلاقة المريبة التي تربط السلطانة بخادمها
ياقوت. وصارت اخبارهما حديث العامة والخاصة. وتناقل الناس أنها قد سمحت لعبدها أن
يمسها. فثار عليها الشعب ونهض الأمراء وحكام الأقاليم وعزموا على خلعها . وتم لهم
ذلك.فانتزعوها من على عرشها وقتلوا جمال الدين ياقوت أمام
ناظريها. ومن ثم زوجوها من أحد أقاربها. وصعد أخوها ناصر الدين إلى عرش
السلطنة.
المحاولة
الأخيرة :
حاولت رضية الدين هي وزوجها
استعادة العرش بالقوة. وقد تمكنا من تجنيد عدد كبير من المماليك والأتباع. وساروا
بجيشهم إلى دلهي. فخرج السلطان ناصر الدين لملاقاتهم,
والتحم الجيشان ودارت رحى المعركة بين الفريقين. وكانت الهزيمة من نصيب السلطانة
المخلوعة رضية
الدين، التي حرمت من عرشها ومن حبها معا.
نهاية مأساوية :
حينما ايقنت رضية الدين بالهزيمة،
لجأت إلى الفرار من أرض المعركة. فانطلقت بها فرسها في الغابات والحقول إلى أبعد
مكان تستطيع الوصول إليه. وهامت على وجهها إلى أن وصلت إلى إحدى القرى النائية وقد
بلغ بها الإعياء والجوع والعطش مبلغهم. فأبصرت فلاحا عاكفا على حراثة أرضه، فسألته
القليل من الماء والزاد، فأسرع إليها بكسرة خبز وماء وهو يظنها فارس فقير الحال
مثله. فأكلت وغلبها النعاس فنامت وهي في لباس الحرب. فنظرإليها الرجل ليكتشف أنها
امرأة وليس رجلا لما انكشف قباؤها النسائي المرصع بالذهب من تحت درعها. هنا استبد
الطمع بالفلاح الفقير، واراد أن يستحوذ على هذا القباء النفيس، فاستل خنجرة وطعنها
وهو لا يدري من تكون، وأخذ القباء ومن ثم دفنها في الأرض التي كان يحرثها وترك
فرسها تهرب بعيدا. وانطلق من فوره إلى السوق ليبيع القباء. عندما رأى التجار ما
لديه ثارت شكوكهم حوله. كيف لهذا الفلاح رث الثياب بمثل هذا القباء المطرزبالذهب
والذي لا يكون إلا من لباس الأميرات والملكات. فقادوه إلى الشرطة فاعترف بجريمته
ودلهم على الموضع الذي دفنها فيه. فأخرجوها من حفرتها وعرفوا أنها رضية الدين السلطانة
الهاربة. فغسلوها وكفنوها وصلوا عليها ثم أعادوا دفنها في ذات المكان. وكان ذلك في
الخامس والعشرين من ربيع الأول عام 637هجريه.
وقام أخوها ناصر الدين بعمل ضريح
مهيب لها وبنا فوقه قبه. وصار هذا الضريح مزارا يتبرك به الناس وهو على شاطئ النهر
المعروف بنهر الجون.
وهكذا أسدل
الستار على قصة ملكة مسلمة حكم أبوها بالعدل، فأنقذها العدل من بطش أخيها بمساندة
الشعب. هذا الشعب نفسه الذي ثار عليها ونزع منها ملكها فقط لأنها أحبت وهذا مما كان
محرما على السلطانة الشابة رضية الدين بنت شمس الدين للمش ( رحمها
الله).
تشير الصورة إلى ما
تبقى من ضريحها الفخم في يومنا هذا.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]